|

الأفعـــــى( لعــزوز عقيل ).الكتابة عن الوجدان وغياب الكلي الشامل

يبدو أن الشاعر عزوز عقيل في مجموعته الشعرية "الأفعى" الصادرة سنة 2007 عن منشورات الجزائر عاصمة الثقافة العربية قد شعر أن الكتابة في لون وشكل واحد من الشعر لم يعد يكفي للتعبير عن أحزانه الصغيرة والكبيرة فيما يتصل بوجدانياته الخاصة منها والعامة, ولذلك عمد إلى ضرب من الكتابة التي لا تستقر على شكل واحد ونمط واحد,كأن تكون القصيدة عمودية منها أو قصيدة تفعيلة, وأبرزها ما في معطيات الكتابة عن الوجدان والتماهي مع الذات والمخيال والذاكرة.
إن القصيدة عنده تتحول إلى لوحة أخاذة كما لو أن هذه الوجدانيات لا تظهر إلا بوصفها ا لكيان المغدور الذي أصبح ملكا ليس لعقيل وحده, بل للذاكرة أيضا على غرار ما نقرأ في قصيدته" الأسير" :" السماء التي لم تبح بحكايا الفجيعة/والأرض هذا المدى منتهى الشوق / ها طفلة تستبيح القصائد منشدة للربيع الأخير / وبعض من الذكريات الحزينة/ قد أمطرتها بالقصائد / كم من أسير وكم من جريح؟/ أنا يا هنا تذكرتهم واحدا واحدا..."
فالقارئ هنا أمام رومانسية معدلة توحد بين الذات والوجدان والمخيال, فيتوهج الأسلوب وتصير اللغة فسحة وساطة من شأنها أن تلحم العالمين الخارجي والجواني في وحدة لا انفصام لعراها, بحيث تنعدم المسافة الفاصلة بين الروح والغياب, ومع أن الزمان لا يبرز على نحو واضح بل يظل مكتوما طوال النص كله, فإنه من الناحية الدلالية اللغوية يمكن القول أنه يتوارى كوعي ضمني خلف اللغة بوصفه الزمن الماضي على اعتبار أن كل قصائد شاعرنا"عزوز عقيل" تغرف من ذاكرته الوجدانية بأحزانها الصغيرة والكبيرة, ومن أبرز علائم الولاء للوجدان والذاكرة ما جاء في قصيدته" عقيل" وهي قصيدة تنحو في بنائها إلى اللغة القصصية والحوار الداخلي والمونولوج, وهو البناء الأثير الذي شكل عند " عزوز عقيل" ربما جزءا مهما في مرحلة سابقة من مجموعته الشعرية الأولى" مناديل العشق" ولذلك نجده يقول في هذه القصيدة " رحت أهيئ أمتعتي للرحيل/ مرة رحت أبحث عني/ فتشت كل الأزقة "وسارة" الآن أيضا/ وحي المحرك / حي ابن باديس كل الشوارع فتشتها/ في عيون الحبيبة / والأصدقاء/وجدت الجميع ولكنني/ ما وجدت عقيل", هنا في هذا النص نصادف ساردا وشاعرا في الآن ذاته, وها هو الآن يعرض بعضا من قدرته على الدمج بين لغتين متمايزتين و مختلفتين كليا هما اللغة الشعرية واللغة السردية,داخل نص شعري قصير نسبيا , ولهذا فإن هذا النص الشعري وإن كان استحضر الذاكرة الجوانية للشاعر "عزوز عقيل" فإنه من ناحية أخرى قد استحضر أيضا جزءا من ذاكرة هذا الشاعر وهو مدينته " عين وسارة" باعتبارها المعادل الموضوعي " للذاكرة المفقودة" عل حد تعبير الروائي اللبناني "إلياس خوري" أما قصيدة " الأفعى" القصيدة التي جعل منها الشاعر عنوانا رئيسيا لمجموعته الشعرية, فهي قصيدة موفقة من جميع الوجوه بدءا من عنوانها بما يحيل إليه وعليه من أسئلة مضمرة على المتلقي أن يقرأها من نواحي عدة لسبب بسيط وهو أنها تنبع من الذهن كما تنبع أيضا من صميم الذات والوجدان ككل قصائد" عزوز عقيل" , والأدب الذهني وينبغي أن لا ينصرف الفهم هنا إلى الأدب الذهني في معناه الفلسفي كما عرفته الذاكرة القرائية لدى عدد من المبدعين على غرار " محمود المسعدي في نصه الروائي " حدث أبو هريرة قال" وألبير كامي في روايته" الغريب" وجان بول سارتر في نصه المسرحي الشعري" الغثيان" , وسائر الكتاب والشعراء الوجوديين ـ قلت ـ والأدب الذهني يظهر هنا أدنى مرتبة من ذلك الأدب المأهول بعناصر وجدانية لا تخلو من سمات الانفتاح على شعرية الطبيعة كقوله:" يحتويني الخريف/ وتلفظني الأرصفة/ هي ذاكرة من زمان بعيد / تحاصرني بالمواجع/ تقتلني بالشذى/" أو قوله أيضا:" أشتهيها إذن/ ستغني العصافير/ يرقص في حقلنا الورد/ يفتح شباكه للجنون الجميل", فهذا النص أيضا ينتمي إلى تلك الفصيلة من القصائد ذات البناء القصصي , وليس خافيا على أحد من القراء الذين عرفوا عزوز عقيل منذ بدايات عهده بالكتابة بأنه جرب أيضا الكتابة القصصية ونشر عددا من تجاربه في القصة بجريدة " المساء" سنوات بداية التسعينيات, ولهذا فإن أسبقية الفكرة التي تهيمن على النسيج الفني للقصيدة عنده كما هو الشأن مثلا في البناء السردي مع فارق بسيط وهو أن هذه الأسبقية لدى القصاصين كثيرا ما تحرم الشخوص من أن تكون حياة أخرى تنبض بالداخل العميق, بينما هي في الشعر لا تعدو سوى أن توظف عددا من المهارات السردية كالحوار والمونولوج الداخلي إيمانا من الشاعر بضرورة تنويع طرائق الكتابة الشعرية لديه للتخلص كلية من الكتابة الشعرية النمطية ذات البناء الأفقي واللغة المسجوعة والمعنى الثابت وللحق أقول أن وجدانيات "عزوز عقيل" جاءت نبيلة نقية حارة وطازجة, ولا مصدر لحرارتها إلا الوجد الذي عاشته الذات وكابدته توقا لولاء غائب قد تمكن من الارتقاء إلى رتبة المطلق , ولا ريب في أن الصدق هو ما يصنع سر الخصوصية في هذه المجموعة الشعرية كلها الذي يعد كما يقول الفقهاء في " الألطاف الحسنى" ومع ذلك فإن هذه النصوص نفسها قد اكتنفها غياب العمق الفلسفي عمق التأمل والارتقاء إلى مرتبة الحكمة والتأمل هو لحظة المجيء من القصي والعميق والمستتر , أما الحكمة فهي رؤية الكوني أو تحويل اللحظة الجزئية والمحلية والذاتية إلى آفاقها القصوى ذلك أنه ليس في قصيدة " عزوز عقيل" ما يومئ ويلامس تراجيديا الذات المكلومة في تماهيها مع جميع المآسي البشرية طوال التاريخ وليس ثمة ما يومئ أيضا ولو من بعيد إلى تحرير الذات من كل " الأسيجة الدوغمائية" بتعبير المفكر الجزائري "محمد أركون" ولعل شدة ولاء الشاعر لذاته ولوجدانه ولمرجعيته الشعرية في ضوء الثبات على مدرسة شعرية بعينها هي " المدرسة النزارية" بتشاكلاتها " الرومنسية الجبرانية" هو ما حال دون ملامسة الكلي الشامل ودون الارتقاء إلى " مأسسة" الكتابة الشعرية تأكيدا لماء الكتابة الذي تحدث عنه أبو عثمان بن بحرو الجاحظ أو حتى إلى قول أدونيس في زيارته الأخيرة للجزائر ـ" من أن الشاعر عليه أن يكون مفكرا" ولم لا الوصول إلى أطروحة متمم بن نويرة المأهولة بالنزعة الكونية على نحو نادر في قوله الشهير:" فدعني / فهذا كله قبر مالك", ومع ذلك كله فإنه لاغبار على الدافع الوجداني في هذه النصوص المفعمة بنظافة الوجدان وصدق التجربة ونقاء السريرة لأن ما أعنيه بضرورة ملامسة الكلي الشامل كما أشرت آنفا قد تطال أسباب غيابه أو انعدامه أو قصوره إلى عدد كبير من الذوات الشعرية وكذلك جميع البنيات الثقافية دون استثناء.

منشورات salempeace بتاريخ 3:50 م. تحت قسم . You can follow any responses to this entry through the RSS 2.0. Feel free to leave a response

0 التعليقات for "الأفعـــــى( لعــزوز عقيل ).الكتابة عن الوجدان وغياب الكلي الشامل"

علّق على الموضوع

الأرشيف

أحدث التعليقات

أحدث المواضيع